تحولات سوريا وأمريكا- من الصراع إلى شراكة المصالح المحتملة

تحوّل في الرواية لا في الذاكرة
إن المسار التاريخي للعلاقات بين سوريا والولايات المتحدة لم يكن مجرد سلسلة من التفاعلات السياسية الزائلة، بل قصة معقدة تتأرجح بين فترات التعاطف والمواجهة الشرسة، وبين تقديم الدعم لاستقلال سوريا وممارسة الضغوطات القاسية، وبين محاولات الاحتواء والاندماج.
اليوم، ومع إغلاق صفحة النظام السوري السابق في الثامن من ديسمبر/كانون الأول من العام 2024، ومع انتهاء العمل بمنظومة العقوبات الأميركية في 30 يونيو/حزيران 2025، تستقبل دمشق مرحلة جديدة ومفصلية، تستدعي عدم البدء من نقطة الصفر، بل تتطلب أولًا مراجعة دقيقة وشاملة لتلك الحقبة الماضية، وفهمًا عميقًا للدوافع الكامنة وراءها، واستشرافًا للمآلات والنتائج المحتملة.
سوف نتناول في هذا المقال استعراضًا لتطور العلاقات السورية-الأميركية من منظور مختلف وغير مألوف: لا باعتبارها علاقة "عداء مستحكمة ودائمة"، ولا بوصفها "تحالفًا مفقودًا في طيات الزمن"، بل كعلاقات مستقبلية ضمن محيط إقليمي يشهد تحولات متسارعة، وكيفية الاستفادة القصوى من دروس الماضي المريرة في سبيل بناء علاقات متينة وقوية ترتكز أساسًا على التقاء المصالح المشتركة.
أولًا: دعم الاستقلال.. البذرة الأولى للعلاقة
في عام 1946، لم يكن حصول سوريا على استقلالها يمثل مجرد انسحاب للقوات الفرنسية، بل كان تتويجًا لمسيرة نضال سياسي ودولي، أسهمت فيه الولايات المتحدة بدور فعال وملموس.
ففي أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أبدى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ومن بعده الرئيس ترومان، رفضهما القاطع لاستمرار نظام الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، واستخدمت واشنطن نفوذها ووزنها داخل الأمم المتحدة للضغط على باريس، وقدمت الدعم الكامل لمطالب سوريا ولبنان بالاستقلال التام والجلاء الفوري للقوات الأجنبية.
وقد نظر السوريون، وعلى رأسهم الرئيس شكري القوتلي، إلى هذا الموقف الإيجابي كفرصة سانحة لبناء شراكة قوية مع قوة عالمية صاعدة لا تحمل تاريخًا استعماريًا في المنطقة، ولكن سرعان ما تلاشت تلك الفرصة الذهبية؛ بسبب تشكّل نظام عالمي ثنائي القطبية كان جوهره الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين متنافسين ومتصارعين.
ثانيًا: من الانقلابات إلى الاصطفاف (1949 – 1967)
لم يمض وقت طويل حتى انزلقت سوريا إلى دوامة من الانقلابات العسكرية المتتالية، والتي بدأت بانقلاب حسني الزعيم عام 1949، والذي تم بتشجيع غير مباشر من واشنطن في إطار سعيها لإدخال سوريا في حلف بغداد لاحقًا.
هذا التدخل الأميركي المبكر في الشؤون الداخلية السورية أوجد شعورًا عميقًا بالشك والريبة بين النخب القومية واليسارية في البلاد.
في المقابل، وجد الاتحاد السوفياتي في سوريا بيئة مواتية للتوسع الأيديولوجي وتقديم الدعم العسكري، خاصة بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963، وهو ما عزز اصطفافًا استراتيجيًا واضحًا مع موسكو.
ثالثًا: القطيعة والتصعيد في ظل الحرب الباردة (1967- 1990)
عقب نكسة يونيو/حزيران عام 1967 واحتلال الجولان وسيناء والضفة الغربية، بادرت دمشق، جنبًا إلى جنب مع عدة دول عربية أخرى، إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع واشنطن، ثم عادت العلاقات الدبلوماسية بعد اتفاق وقف إطلاق النار عام 1974، لكن في عام 1979، جاء إدراج سوريا على قائمة "الدول الراعية للإرهاب"، بسبب دعمها للفصائل الفلسطينية ثم حزب الله، ليشكل تحولًا جوهريًا في طبيعة العلاقة، ويفرض أولى العقوبات الاقتصادية والسياسية.
رسخت هذه الحقبة صورة الولايات المتحدة كـ "عدو أيديولوجي" في الوعي الجمعي والرسمي السوري، على الرغم من أن إدارة حافظ الأسد كانت تتعامل مع هذا الملف من زاوية "العداء المحسوب"، دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة.
رابعًا: الانفتاح الحذر بعد الحرب الباردة (1991 – 2000)
مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، وجدت سوريا نفسها أمام فراغ استراتيجي كبير، الأمر الذي دفع الأسد الأب إلى تبني نهج براغماتي رفيع المستوى: فانضم إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي بقيادة صدام حسين، ثم شارك في مؤتمر مدريد للسلام، وخاض مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل برعاية أميركية.
لكن هذا الانفتاح النسبي لم يتحول إلى مسار دائم ومستمر، إذ كانت أميركا تنظر إلى سوريا كـ "لاعب وظيفي" في ملفات محددة، في حين ظل النظام السوري ينظر إليها كشريك غير جدير بالثقة؛ بسبب تحالفها الوثيق مع إسرائيل.
خامسًا: قبول مشروط ومراهنة خاسرة (2000 – 2003)
بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000، تعاملت إدارة الرئيس بيل كلينتون ببراغماتية عالية مع مسألة توريث السلطة لابنه بشار. وكان الحضور اللافت لوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت في دمشق، واجتماعها ببشار الأسد على انفراد، بمثابة مباركة أميركية ضمنية للانتقال السلس للسلطة، على أمل أن يكمل الرئيس الشاب مسار السلام الذي توقف.
راهنت واشنطن على أن بشار الأسد، الذي تلقى تعليمه في الغرب، قد يكون أكثر مرونة وانفتاحًا من ضباط الجيش المتنفذين والمسيطرين.
لكن هذه الآمال تبددت سريعًا؛ فبدلًا من الانفتاح المتوقع، ضاعف الأسد الابن من رهانه على التحالف الاستراتيجي مع إيران، واستمر في لعب دور "الدولة المبتزة" عبر استخدام أوراق إقليمية للضغط، دون أن يدرك أن قواعد التعامل مع الإقليم والعالم قد تغيرت جذريًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
سادسًا: المحاسبة والعزلة المؤقتة (2004 – 2010)
شكل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 نقطة صدام كبرى وفاصلة. فبينما عارض النظام السوري الحرب علنًا، اتُهم بلعب دور مزدوج عن طريق تسهيل عبور المقاتلين المتطرفين إلى العراق؛ بهدف استنزاف القوات الأميركية وإيجاد ورقة ضغط، فجاء الرد الأميركي عبر "قانون محاسبة سوريا" عام 2004، الذي مهّد الطريق لفرض عقوبات أكثر شمولية.
ثم جاء اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري عام 2005، واتهام نظام الأسد وحزب الله بالضلوع في الجريمة، ليشكّل لحظة مفصلية أخرى.
في اليوم التالي للجريمة، سحبت أميركا سفيرتها مارغريت سكوبي، وبقيت السفارة الأميركية تعمل بمستوى أدنى على مستوى "قائم بالأعمال" إلى أن عين الرئيس أوباما روبرت فورد عام 2010.
جاءت الجريمة لتصب الزيت على نار القرار الأممي رقم 1559 الصادر عام 2004، والذي طالب بانسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان. إذ وُجهت اتهامات مباشرة للنظام السوري وشركائه بالوقوف وراء الاغتيال، ما أدى إلى بروز ضغط دولي وعربي غير مسبوق، وأجبر الجيش السوري على الانسحاب الكامل من لبنان في أبريل/نيسان 2005.
لكن التداعيات لم تتوقف عند هذا الحد؛ فقد أشار تقرير التحقيق الدولي الأولي برئاسة ديتليف ميليس بأصابع الاتهام إلى ضباط سوريين كبار، وتأسست على إثره المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
وعلى الرغم من أن هذه التطورات فرضت عزلة غير مسبوقة على دمشق، فإن النظام تمكن من استيعاب الصدمة عبر مزيج من المناورات السياسية واستغلال الانقسامات الإقليمية، وتراجع الزخم الدولي تدريجيًا، ما مكنه من تجاوز أخطر أزمة واجهته قبل اندلاع الثورة السورية.
سابعًا: الثورة والحصار الكامل بقانون قيصر (2011-2024)
مع اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، لجأ النظام إلى القمع الدموي، وهو الأمر الذي دفع الرئيس أوباما إلى سحب السفير فورد في أكتوبر/تشرين الأول 2011 بعد تصاعد العنف الوحشي المرتكب ضد المدنيين السوريين.
هذا التحول الجذري دفع الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين والعرب إلى فرض حزمة من العقوبات تعتبر الأقسى في تاريخ البلاد، واستهدفت قطاع النفط، والتحويلات المالية، والشخصيات الرئيسية في النظام.
بلغت هذه العقوبات ذروتها مع إقرار "قانون قيصر" عام 2020، الذي لم يكتفِ بمعاقبة النظام السوري، بل فرض أيضًا عقوبات ثانوية على كل جهة دولية تتعامل معه في قطاعات الطاقة والبناء والبنك المركزي، وهو ما أغلق فعليًا جميع الأبواب أمام إعادة الإعمار، وأوصل الحصار الاقتصادي إلى أقصى مدى له.
ثامنًا: السقوط والتحول.. عندما انكسرت المعادلة (2024 – 2025)
في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، تحررت سوريا من حكم عائلة الأسد الذي استمر لمدة 54 عامًا، في حدث فاجأ الجميع من حيث السرعة والتوقيت. وتسلم الرئيس أحمد الشرع السلطة بعد توافق داخلي وقبول إقليمي، بدعم مباشر من السعودية وقطر وتركيا، وتفهم أميركي ضمني.
أطلق هذا التحول دينامية دبلوماسية جديدة، توجت بلقاء علني في الرياض بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الشرع في مايو/أيار 2025.
وبعد هذا اللقاء، أعلنت واشنطن في 30 يونيو/حزيران 2025 إلغاء العقوبات الشاملة المفروضة على سوريا، تمهيدًا لإعادة دمجها في الاقتصاد العالمي ودعم عملية إعادة الإعمار.
تاسعًا: إلى أين تتجه العلاقة؟
في ظل هذه التحولات المتسارعة، يمكن استشراف ثلاثة مسارات محتملة لمآلات العلاقة بين البلدين:
- المسار الأول؛ تفاهم براغماتي مشروط: حيث تستمر الولايات المتحدة في دعم التحول السياسي، مقابل التزام سوريا الجديدة بمبادئ المشاركة، ومكافحة الفساد، وإنهاء النفوذ الإيراني، والتعاون الأمني في ملفات الإرهاب والمخدرات.
- المسار الثاني؛ احتواء بارد: إذا تعثرت الإصلاحات، أو عادت الآليات السابقة بوجه جديد، فقد تختار واشنطن سياسة إدارة الأزمة دون تصعيد، لكنها ستحجب أي دعم اقتصادي أو سياسي فعال.
- المسار الثالث؛ شراكة إستراتيجية: وهو السيناريو الأطول أمدًا، ويقوم على تحول سوريا إلى دولة مستقرة إقليميًا ومركز توازن جيوسياسي، وهو ما يفتح الباب أمام علاقات دفاعية واقتصادية مستدامة، في حال نضوج العلاقة وتطورها.
خاتمة: السياسة ليست ذاكرة.. بل إدارة للممكن
لقد بدأت العلاقة السورية-الأميركية من الجلاء، ومرت بتقلبات كبيرة شملت انقلابات وقطيعة وحصار، حتى وصلت إلى الانفراج المأمول. وهذا لا يعني أن صفحة الصراع قد طويت بالكامل، بل إن قصة جديدة تكتب الآن، ويُعاد فيها توزيع الأدوار.
إن واشنطن ليست قدرًا محتومًا، ولكنها ليست هامشًا أيضًا. ولا يتعلق الأمر بالثقة المطلقة بها، بل بالثقة بالنفس، والقدرة على صياغة قرار وطني مستقل لا يعتمد على الخارج ولا يعاديه، وإدارة المصالح المشتركة بذكاء وحكمة.
في النهاية، لا مستقبل لسوريا في عزلة جديدة، ولا استقرار لها في التبعية لأي طرف.
والسؤال المطروح اليوم لم يعد: كيف نواجه العقوبات؟ بل: كيف نمنع عودتها؟ وكيف نضمن أن تكون سوريا عنصرًا فاعلًا ومؤثرًا في تشكيل النظام العالمي الجديد؟